مركز الدراسات الإسلامية بدمشق
رمضان.... ثم لتسألن يومئذ عن النعيم
بقلم د.محمد الحبش
ربما كان نسك رمضان أكثر نسك ديني شعبية في العالم, حيث يتشارك في أدائه مباشرة أكثر من خمسمائة مليون إنسان
في العالم ويتأثر به بأشكال متفاوتة أكثر من مليار ونصف مليار إنسان في العالم, على الرغم من أنه تكليف ليس باليسير, ويتضمن قدراً كبيراً من الجوع والضنى والعناء ولكنه على الرغم من ذلك حبيب قريب إلى قلوب الملايين, واليوم تشترك فيه الدراما والاقتصاد والفن في رسم ملامح رمضان على صورة تجعله بالفعل موسماً سياحياً ممتعاً, وعلى الرغم من أنه لا اعتراض لنا على جعل رمضان كذلك, ولكنني أشعر بأن ذلك يأتي اليوم على حساب الرسالة الأولى لرمضان وهي تهذيب الروح بالجوع ومواساة البائسين من خلال مقاسمتهم آلامهم بالجوع والضنى.
الجوع كلمة لم يعد لها وجود في قاموسنا اليوم, على الرغم من أن الصوم في المقام الأول هو عملية جوع بقصد تهذيب الروح.
من دون أدنى شك فإن فواتير الاستهلاك الغذائي في رمضان تتضاعف عما سواه في مختلف المعايير, على مستوى شراء الغذاء وفواتير الكهرباء والهاتف, بل حتى على مستوى حجوزات المطاعم التي أصبح لها اليوم ألف وسيلة لاجتذاب الناس إلى خيامها وفوانيسها وكل محاولات نقل الروح الرمضانية للعالم.
ولكن رمضان في نسك النبي الأكرم كانت شيئاً مختلفاً عن ذلك كله, فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء رمضان يطوي فراشه ويوقظ أهله وكان إفطاره على تمرات , وحفظ له العالم كلمته الشهيرة حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه.
وفي حديث مشهور تساءل الصحابة عن صيام النبي الكريم فقد كان يفطر على تمرات, وربما كان يواصل والمواصلة هي صوم اليوم بعد اليوم من دون إفطار وقد كان النبي يفعل ذلك, ولكنه نهاهم أن يقلدوه وأخبرهم أن الوصال في الصوم من خصائصه وليس للناس أن يقلدوه فيها.
والخصائص هي جملة سلوكيات كان النبي الكريم يراه من خصائصه ولايأذن للناس باتباعه فيها, ومنها ما هو أشد من الأحكام التكليفية المعتادة ومنه ما هو أيسر.
أبو هريرة صحابي فريد مثير للجدل, لصراحته وجرأته أحياناً ولذاكرته العجيبة التي حفظت على الإسلام معظم روايات السنة النبوية.
يقول أبو هريرة: كان الأنصار والمهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق وكنت رجلاً أتبع رسول الله لشبع بطني, فخرجت يوماً وقد أصابني الجوع وقد شددت على بطني الحجر من الجوع, وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الناس يروونها أن النبي كان يشد الحجر على بطنه وربما شد الحجرين, وأستطرد هنا قليلاً فقد كنت أحتار في معنى شد الحجر على البطن, ولماذا يقوم الجائع بمزيد من العناء بربط الصخور على بطنه حتى قرأت للسيوطي في الحاوي للفتاوى نقلاً عن ابن حبان أن الأصل في الحديث هو شد الحجز بالزاي وهو الزنار ولكنها صحفت فظنها الناس الحجر وهي في الحقيقة الحجز, والخلاصة أن أبا هريرة كان يشرح ما أصابه من الجوع فقال:
والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه, فمر أبو بكر فسألته مسألة أنا أدرى بجوابها والله ما سألته إلا ليستتبعني!! فقد كان يرجو أن يصيب عنده طعاماً قال: فأجابني ومضى, ثم مر عمر بن الخطاب فسألته المسألة إياها فكان جوابه أخصر وأقسى , فمضيت طاوياً حتى مر بي رسول الله فسلته المسألة إياها, وأدرك الرسول الكريم مراد أبي هريرة وقال: فتبسم حين رآني وعرف ما في وجهي وما في نفسي ثم قال أبا هر قلت لبيك يا رسول الله!! قال الحق بي, ومضى فاتبعته حتى دخل دار سعد بن عبادة, وسعد من أجواد الأنصار وكان رجلاً كريماً جواداً فوجد امرأته فسأل عنه فقالت خرج يستعذب لنا الماء, وأسرعت المرأة في إكرام النبي وضيفه, ودفعت إليهما وعاء فيه لبن, واشتدت حاجة أبي هريرة لمرأى اللبن, وفرح به ولكن الرسول الكريم قال له يا أبا هريرة ادع لي أهل الصفة!!
قال أبو هريرة وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولاعلى أحد وكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها, ويشرح أبو هريرة بعض ما أصابه حينذاك فقال فساءني ذلك فقلت وما هذا اللبن في أهل الصفة كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها!! ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا واستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت قال يا أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال خذ فأعطهم قال فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح فأعطيه الآخر فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال: أبا هر, قلت: لبيك يارسول الله, قال: بقيت أنا وأنت, قلت: صدقت يا رسول الله, قال: اقعد فاشرب, فقعدت فشربت, فقال: اشرب فشربت, فما زال يقول اشرب حتى قلت لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا, قال: فأرني, فأعطيته القدح فحمد الله تعالى وسمى وشرب الفضلة
قال أبو هريرة: ولما شرب النبي من اللبن بكى ودمعت عيناه, قلت: يا رسول الله ما يبكيك? قال: ذكرت قول الله تعالى: { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } !!.
كانت قصعة لبن وشيء من ثريد الخبز, ولكن الرسول الكريم اعتبرها من أعظم النعم ودمعت عيناه وخفق قلبه من هول الحساب يوم القيامة على هذه النعم التي تمتع بها!!
من حقنا أن ننتقل الآن إلى الموائد الرمضانية التي تنتصب اليوم في البيوت وفيها من فنون الطبخ والنفخ وأصناف المآكل والمشارب تئط منها الموائد وتتحير فيها الأبصار وأن نتساءل هل وقع في خواطرنا هذا السؤال الكبير: ثم لتسألن يومئذ عن النعيم?
سؤال نضعه برسم الخيام الرمضانية من فئة الخمسة نجوم التي صارت اليوم من معالم رمضان التي لاتخطئها العين, وقد حشيت بفنون الترف والمتع, ونجوم الفن والطرب, والتي أخشى أن تكون هي المرادة بقول الرسول الكريم: (بئس الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويصد عنها الفقراء!!)
رمضان.... ثم لتسألن يومئذ عن النعيم
بقلم د.محمد الحبش
ربما كان نسك رمضان أكثر نسك ديني شعبية في العالم, حيث يتشارك في أدائه مباشرة أكثر من خمسمائة مليون إنسان
في العالم ويتأثر به بأشكال متفاوتة أكثر من مليار ونصف مليار إنسان في العالم, على الرغم من أنه تكليف ليس باليسير, ويتضمن قدراً كبيراً من الجوع والضنى والعناء ولكنه على الرغم من ذلك حبيب قريب إلى قلوب الملايين, واليوم تشترك فيه الدراما والاقتصاد والفن في رسم ملامح رمضان على صورة تجعله بالفعل موسماً سياحياً ممتعاً, وعلى الرغم من أنه لا اعتراض لنا على جعل رمضان كذلك, ولكنني أشعر بأن ذلك يأتي اليوم على حساب الرسالة الأولى لرمضان وهي تهذيب الروح بالجوع ومواساة البائسين من خلال مقاسمتهم آلامهم بالجوع والضنى.
الجوع كلمة لم يعد لها وجود في قاموسنا اليوم, على الرغم من أن الصوم في المقام الأول هو عملية جوع بقصد تهذيب الروح.
من دون أدنى شك فإن فواتير الاستهلاك الغذائي في رمضان تتضاعف عما سواه في مختلف المعايير, على مستوى شراء الغذاء وفواتير الكهرباء والهاتف, بل حتى على مستوى حجوزات المطاعم التي أصبح لها اليوم ألف وسيلة لاجتذاب الناس إلى خيامها وفوانيسها وكل محاولات نقل الروح الرمضانية للعالم.
ولكن رمضان في نسك النبي الأكرم كانت شيئاً مختلفاً عن ذلك كله, فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء رمضان يطوي فراشه ويوقظ أهله وكان إفطاره على تمرات , وحفظ له العالم كلمته الشهيرة حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه.
وفي حديث مشهور تساءل الصحابة عن صيام النبي الكريم فقد كان يفطر على تمرات, وربما كان يواصل والمواصلة هي صوم اليوم بعد اليوم من دون إفطار وقد كان النبي يفعل ذلك, ولكنه نهاهم أن يقلدوه وأخبرهم أن الوصال في الصوم من خصائصه وليس للناس أن يقلدوه فيها.
والخصائص هي جملة سلوكيات كان النبي الكريم يراه من خصائصه ولايأذن للناس باتباعه فيها, ومنها ما هو أشد من الأحكام التكليفية المعتادة ومنه ما هو أيسر.
أبو هريرة صحابي فريد مثير للجدل, لصراحته وجرأته أحياناً ولذاكرته العجيبة التي حفظت على الإسلام معظم روايات السنة النبوية.
يقول أبو هريرة: كان الأنصار والمهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق وكنت رجلاً أتبع رسول الله لشبع بطني, فخرجت يوماً وقد أصابني الجوع وقد شددت على بطني الحجر من الجوع, وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الناس يروونها أن النبي كان يشد الحجر على بطنه وربما شد الحجرين, وأستطرد هنا قليلاً فقد كنت أحتار في معنى شد الحجر على البطن, ولماذا يقوم الجائع بمزيد من العناء بربط الصخور على بطنه حتى قرأت للسيوطي في الحاوي للفتاوى نقلاً عن ابن حبان أن الأصل في الحديث هو شد الحجز بالزاي وهو الزنار ولكنها صحفت فظنها الناس الحجر وهي في الحقيقة الحجز, والخلاصة أن أبا هريرة كان يشرح ما أصابه من الجوع فقال:
والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه, فمر أبو بكر فسألته مسألة أنا أدرى بجوابها والله ما سألته إلا ليستتبعني!! فقد كان يرجو أن يصيب عنده طعاماً قال: فأجابني ومضى, ثم مر عمر بن الخطاب فسألته المسألة إياها فكان جوابه أخصر وأقسى , فمضيت طاوياً حتى مر بي رسول الله فسلته المسألة إياها, وأدرك الرسول الكريم مراد أبي هريرة وقال: فتبسم حين رآني وعرف ما في وجهي وما في نفسي ثم قال أبا هر قلت لبيك يا رسول الله!! قال الحق بي, ومضى فاتبعته حتى دخل دار سعد بن عبادة, وسعد من أجواد الأنصار وكان رجلاً كريماً جواداً فوجد امرأته فسأل عنه فقالت خرج يستعذب لنا الماء, وأسرعت المرأة في إكرام النبي وضيفه, ودفعت إليهما وعاء فيه لبن, واشتدت حاجة أبي هريرة لمرأى اللبن, وفرح به ولكن الرسول الكريم قال له يا أبا هريرة ادع لي أهل الصفة!!
قال أبو هريرة وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولاعلى أحد وكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها, ويشرح أبو هريرة بعض ما أصابه حينذاك فقال فساءني ذلك فقلت وما هذا اللبن في أهل الصفة كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها!! ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا واستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت قال يا أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال خذ فأعطهم قال فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح فأعطيه الآخر فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال: أبا هر, قلت: لبيك يارسول الله, قال: بقيت أنا وأنت, قلت: صدقت يا رسول الله, قال: اقعد فاشرب, فقعدت فشربت, فقال: اشرب فشربت, فما زال يقول اشرب حتى قلت لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا, قال: فأرني, فأعطيته القدح فحمد الله تعالى وسمى وشرب الفضلة
قال أبو هريرة: ولما شرب النبي من اللبن بكى ودمعت عيناه, قلت: يا رسول الله ما يبكيك? قال: ذكرت قول الله تعالى: { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } !!.
كانت قصعة لبن وشيء من ثريد الخبز, ولكن الرسول الكريم اعتبرها من أعظم النعم ودمعت عيناه وخفق قلبه من هول الحساب يوم القيامة على هذه النعم التي تمتع بها!!
من حقنا أن ننتقل الآن إلى الموائد الرمضانية التي تنتصب اليوم في البيوت وفيها من فنون الطبخ والنفخ وأصناف المآكل والمشارب تئط منها الموائد وتتحير فيها الأبصار وأن نتساءل هل وقع في خواطرنا هذا السؤال الكبير: ثم لتسألن يومئذ عن النعيم?
سؤال نضعه برسم الخيام الرمضانية من فئة الخمسة نجوم التي صارت اليوم من معالم رمضان التي لاتخطئها العين, وقد حشيت بفنون الترف والمتع, ونجوم الفن والطرب, والتي أخشى أن تكون هي المرادة بقول الرسول الكريم: (بئس الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويصد عنها الفقراء!!)
No comments:
Post a Comment